الجمعة، 5 أكتوبر 2012

تاريخ القراءة


 
يقتبس ألبرتو مانجويل (Alberto Manguel) في كتابه (تاريخ القراءة) مقولة إيتالو كالفينو (القراءة تعني الاقتراب من شيء في اللحظة التي هو فيها على وشك أن يُخءلَق) من كتابه (If on a winter night. 1979) "إذا في ليلة شتاء" للتدليل على خطورة فعل القراءة. تلك الخطورة التي تجعل للكلمة المقروءة حداً أمضى من السيف وفتكاً يفوق فتك الأسلحة المتطورة، لذا نجد أن حروب اليوم تعتمد بالدرجة الأولى على الإعلام وعلى الكلمة المُنَاورَة والكلمة الساحقة أو المُهَمّشَة للعدو أو المُزيفة لما يجري في أرض المعارك، يقول ألبرتو:
(في 1966قبل عام من تخرجي من المدرسة الثانوية، وعندما كانت الحكومةُ العسكرية للجنرال أونجانيا قد استلمت الحكمَ، اكتشفتُ طريقةً لتصنيف الكتب غير اتباع التصنيف الأبجدي حسب اسم الكتاب أو مؤلفه أو موضوعه وذلك حسب منعها أو فسحها رقابياً. إذ أنه وتحت وطأة الاتهامات بالشيوعية والفحش، فلقد تم ضمَّ بعض عناوين الكتب وبعض المؤلفين لقوائم الممنوعات رقابياً. وفي ظل سياسة حملات التفتيش المفاجئ للجميع في محطات القطارات والمقاهي بل وحتى في الشوارع صار القبض عليك وأنت تحمل أياً من تلك الكتب ذات العناوين المثيرة للشبهة يضاهي في خطورته القبض عليك وأنت لا تحمل أوراقك الثبوتية، وكلاهما يجعلك عرضة لأقسى العقوبات. مما جعل الكُتَّاب الممنوعين مثل بابلو نيرودا، وجي دي سالينجر، ومكسيم غوركي، وهارولد بنتر يشكلون مرجعية خاصة من الأدب تربطها نظرة الرقيب المُشككة بل والمُدينة).
ليست فقط الحكومات الديكتاتورية التي تعاني هذا الخوف من القراءة، لأن القُرَّاء ظلوا يُضطَهَدون ويُخَوَّفون في ساحات المدارس ويخضعون لحملات تفتيش خزائنهم وأدراجهم الخاصة بحثاً عن الكتب الممنوعة تماماً كما يُضطَهَدون في مكاتب الحكومات والسجون. يمكننا القول إنه وتقريباً في كل مكان تنشأ لجماعة القُرَّاء سمعة غامضة والتي تأتي من السلطة والقوى الغامضة التي تمنحها الكتب. كما أن هناك حس بالقوة أو بالحكمة لا يمكن القبض عليه في العلاقة بين القارئ والكتَاب، ولكن القارئ وفي ذات الوقت يُنءظَرُ إليه بصفته الكائن المنعزل والعازل لما عداه، إن الانغماس في القراءة هو فعلٌ مُمَيّزٌ للقارئ ونافٍ للمُرَاقب، وذلك ناجم ربما عن أن منظر الفرد المنعزل في مقعد بركن قصي، الذاهل عن تذمر الكون وفوضاه، يُوحي بحصانة واعتكافٍ لا يمكن اختراقه، حصانة تنطلق فيها عينُ القارئ بأنانية وتسمح له بممارسة أكثر الأفعال سريّة. كانت عبارة أمي (أخرج للهواء الطلق وعشء.) تلاحقني بها كلما رأتني منعزلاً أقرأ، كما لو أن نشاطي الصامت يتعارض مع مفهومها لما يعنيه كون المرء حياً. وإن الخوف الشائع مما يمكن أن يرتكبه القارئ ضمن صفحات الكتاب يماثل الخوف الأزلي الذي يحمله الرجال عما يمكن أن ترتكبه النساء في المواقع السرية بأجسادهن، ويماثل ما يمكن أن يرتكبه السحرة والكيميائيون وراء الأبواب الموصدة. الانغماس في القراءة فعل يوحي بخطورة القارئ لذا يُتَهَم القراء بالبعد عن الواقع والتحصن في برج عاجي وفقاً لسانت بويف، ولقد وَصَمَ فيرجيل العاج بأنه المادة التي سُبكَتء منها بوابات الأحلام الزائفة، أي أن القارئ معزول في أحلام زائفة بعيداً عن الأرض وواقعها الجارح.
لقد أخبرني بورخيس يوماً بأنه، وخلال إحدى المظاهرات الشعبية التي نظمتها حكومةُ بيرون عام 1950ضد المثقفين المعارضين، جأر المتظاهرون فيها رافعين شعار (أحذية نعم، كتب لا)، وأن الصيحات التي واجهت ذلك الشعار بشعار نقيض يقول (أحذية نعم، كتب نعم) لم تُفلح في إقناع أحد. وإن الواقع (أو ضرورات حقيقة الواقع القاسية) سيظل يُنءظَر إليها بصفتها تتعارض بشكل لا يمكن تفاديه مع عالم الكتب الذي لا يمكن حصره ولا القبض عليه. بهذا العذر وبتأثير يتعاظم تقوم رموزُ السُلطة بتشجيع الانفصام بين الحياة والقراءة. المستأثرون بالسلطة يريدون لنا أن ننسى وأن نفقد الذاكرة، لذلك يصمون الكتب بالرفاهية الزائفة، الأنظمة الديكتاتورية تتطلب ألا نفكر لذا تقوم بحظر الكتب والقراءة ومنعها، وبالتالي تَتَطَلَّب منَّا أن نكون أغبياء وأن نقبل إذلالنا بخنوع تام لذا يشجعون إدماننا للامتيازات والأرباح التي تُسءتَجءدَى من الرعاية الرسمية وفي مثل تلك الظروف لا حياة للقارئ المدمن على عوالم الكتب التي تتسم بذاكرة حادة وتفتح الآفاق والبصائر وتشجع على الترفع.
في عام 1984، تم العثور على لوحين من الفخار، في تل براك في سوريا، يرجع تاريخهما للألفية الرابعة قبل الميلاد. ولقد رأيتهما قبل حرب الخليج بعام واحد معروضين في متحف الآثار ببغداد. لقد كانا في غاية البساطة، ولا يميزهما شيء خاص ولا حلية ولا تعقيد في الصياغة والتشكيل، ويحمل كل منهما علامات حذرة: نقوش أو انبعاجات صغيرة عند القمة، وحيوان يشبه العصا مرسوم بالمركز. أحد الحيوانين قد يكون ماعزاً، والآخر ربما كان نعجة، ويقول علماء الآثار بأن النقش يُعَبّر عن الرقم عشرة. كل تاريخنا بدأ بذينيك اللوحين البسيطين. واللذين (فيما إذا نجحا في النجاة من الحرب والنهب) هما بين أقدم أمثلة الكتابة في تاريخنا البشري.
هناك شيء مؤثر بعمقٍ في اللوحين، ربما لأننا وبمجرد تحديقنا في اللوحين من الصلصال نشعر بأننا محمولون بنهرٍ انقرض، نُبحر بينما نحن نراقب النقوش الدقيقة التي تُصَوّر حيوانات تحولت لغبار منذ آلاف وآلاف السنين، ونصير واعين بصوتٍ يُسءتَحءضَر، بفكرةٍ، رسالة تُخبرنا بأنه: "كانت هنا عشر معزات". "عاشت هنا عشر نعاج"، كلمات نَطَقَها مزارعٌ حريص في الأيام التي كانت فيها الصحراء سهولاً من الرخاء والخضرة. بمجرد النظر لذينيك اللوحين ينتابنا بأننا قد قمنا بتخليد ذكرى، بمدها من بداية الزمن لوقتنا الحاضر، بتلك النظرة قمنا بحفظ فكرةٍ لدهورٍ ودهورٍ بعد أن كَفَّ المفكر عن التفكير، ولقد نجحنا بذلك في جعل أنفسنا جزءاً من فعل الخلق والذي سيبقى قائماً ومشرعاً ما دام ذلك النقش منظوراً وقابلاً للتفسير والقراءة....).
يذكرنا ذلك بالألواح التي رجع بها موسى من جبل الطور، والتي تحمل وصايا الله، والتي تكسرت بالبلبلة التي احتلت مكانتها بين قومه الذين شاءوا عبادة العجل من ذهب، ليفضح الشرخ الأزلي بين عالم الذهب وآفاق القراءة، وكيف صار عليه أن ينتخب رجالاً من قومه للصعود معه لحمل الوصايا، شاء موسى أن تُنقش الوصايا بصدور الرجال، أن تأتي القراءة طي الجسد فلا يعود محوها ممكناً إلا بإبادة الجسد، الأمر الذي يُحيل لبداية تنزيل القرآن، الكتاب الذي نزل في الصدور، منقوشاً بأحرف في اللحم والدم، ليدوم زمناً حيّاً يتنفس قبل أن يتم تفريغه في الأوراق، إلا أن مرجعه الأخير الصدور، حين يُرفع في آخر الزمان ويُقءبَضُ حَفَظَتُه وتَرثُ الأرضَ الشياطينُ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق